الأربعاء، 29 أكتوبر 2008

العلاقة الحيوية بين الإنسان والبيئة












1-عودة إلى البدايات :
ليس المهم في البداية ما يدل على تتابع الزمن ، فالمسألة أكبر من تراكم الأزمنة من سنين وقرون بل الكيفية تكمن في الأعمال الناشئة عن الإنسان من خلال التتابع الزمني ، فالارتباط بالحياة والتفاعل مع محيط النشوء الحي وتراكم الخبرة والعمل شكل التصاعد المتراكم لكيفية التوجه نحو الحالات الخاصة بالطبيعة البشرية وطريقة تفاعلها مع الوسط وكيفية إستغلاله وإجراء تغيرات لا حصر لها في بنيته ، فالتنوع والفردية والطبيعية الاجتماعية قضايا متداخلة مع الطبيعة الإنسانية كرستها آلاف السنين من التطور والارتقاء الواعي ، أما الارتقاء غير الواعي فقد استمر ملايين السنين .
فقبل الميلاد بأكثر من سبعة آلاف من السنين كانت الحياة في طبيعتها بسيطة للغاية ، تتوقف على تأمين الحاجات العضوية الضرورية للحياة ، إنها تقوم على جمع الغلال من الأشجار والصيد البدائي و الزراعة بالأدوات البسيطة للغاية كالفؤوس الحجرية والعصي المحدبة لحفر الأرض وزراعة البذور والنباتات بصورة اصطناعية ، لم تكن الحياة متمايزة كثيراً فقدرة التكيف فيها تنحصر بجمع المحاصيل البرية والصيد الحيواني لتأمين الحد الضروري لقوة الحياة . فالإعتماد على البيئة المحيطة والتبعية لها شكلت لدى الإنسان ظاهرتين أساسيتين ظاهرة الخوف وظاهرة الطمع ، فالغلال الكثيرة والأراضي الواسعة والغابات الوافرة وتنوع الأحياء جعلت الإنسان سيداً للطبيعة قائماً على خيراتها وحاصلاً عليها في أصعب الظروف .
فالسهام والفؤوس الحجرية وحريّة الصيد والبيوت المصنوعة من خيوط النباتات المتسلقة وأغصان الأشجار حولت الإنسان إلى كائن ملتهم لكل ما حوله من أحياء فالتقليد البيولوجي الذكي لحياة الحيوان في الدائرة الغذائية سواء أكانت حيوانات تعتمد في غذائها على العنصر النباتي أو الحيوانات المعتمدة على الغذاء الحيواني جسدت بفاعلية وكيفية طريقة تفاعل الإنسان مع المحيط الحي .
فالقانون الطبيعي الصارم لا يمكن الحياد عنه نظراً لتلازم العلاقة بين كمية الغذاء وسعة الاستهلاك فالغذاء المتوفر يحدد بالضرورة عدد الأفواه المستهلكة للغذاء ، فغذاء فرد واحد لا يمكن أن يطعم عشرة إنها حقيقة قائمة في عالم الحيوان ، فإذا كان القط البري أو النمس يتغذى على جرذان الحقل فإن النقص الحاصل في محاصيل الغلال الزراعية لأي سبب كان كالجفاف أو مرض المحاصيل يسبب نقصان عدد الجرذان في الحقل كما يؤدي إلى نقصان عدد القطط فالسلسلة الغذائية مترابطة بشكل وثيق وإن أي تدمير وإتلاف لأحد الروابط يرافقه تلف في الروابط الأخرى .
فالحياة البشرية لم تكن عاقلة على مر العصور ، إن وصف الإنسان بالكائن العاقل ناتج عن خاصية امتلاكه عنصر العقل بجميع خصائصه ووظائفه ، فطريقة استخدامه لهذا العقل لم يكن عاقلاً بمعنى لم يكن غيوراً على محيط النشوء الحي على مر العصور ، في بواكير وجوده الواعي كان يقطع النباتات لإبقاء النيران مشتعلة باستمرار ويرمي الأشجار الكبيرة على ضفاف الأنهار لتصبح ممرات ليسهل عليه العبور وزال أقسام من الغطاء النباتي لإبداله بمزروعات أخرى بشكل مستمر ونظراً لضألة التأثير لم تكن الطبيعة تعطية أية أهمية تذكر ، أما العلاقة مع الحيوانات البرية كانت قائمة على الصيد الجائر والجشع وبالرغم من وضع قواعد صارمة لحمايتها لم تكن هذه القواعد ملزمة لمنع الصيادين من قتل المزيد منها ، فالحياة البرية كانت تتلقى دائماً ضربات مفجعة ، و كانت قدرتها على تجديد نفسها تمر عبر إختناقات ومصاعب جمة .
فالاكتشاف العظيم للنار غيّر المجرى العملي لحياة الإنسان وأدت إلى انطلاقه النشيط في مجرى الحياة ضمن واقع الأحياء وجعلته فوق الطبيعة ، لقد وسعت طاقاته وإمكانيته بشكل لم يكن حاصلاً لولا قوة النار ، لقد أدخلت مجالاً واسعاً في حياته ابتداءً من إضافة أنواع غذائية جديدة إلى الطعام وانتهاء بالحصول على النحاس والحديد والقصدير وصناعة الطوب والخزف وتعميم الرعب على كل الكائنات في الطبيعة من خلال قوة النار ، فالنار طاقة خلاقّة كثيرة الاستخدام وسّعت الصلة بين الإنسان والطبيعة وقللّت من تبعته لها وقوة سلطته وفاعليته في مجال النشوء الحي ، فالقدرة الجهنمية للنار يمكن أن تحرق غابة بأكملها ويستطيع أن يقوم بهذا العمل الجبار في التخريب إنسان بمفرده ، فالنار ساهمت في تعزيز النزعة العداونية في نفسيته ، فإقدام الصيادين على حرق غابة كانوا يحصلون على صيد وفير بعد أن تفقد الحيوانات صوابها من هجوم النار والدخان لتقع في شباك الصيادين بعد أن تكون الغابة قد صارت هشيماً سرمداً ، وكلما ازداد الإنسان تدميراً للطبيعة يزداد بعد عنها ويخرج من عالم التوازن الحيوي للطبيعة ليعيش خارج نظام التوازن واستقلالية كاملة عن جميع الكائنات الأخرى .
فقد دلت بعض الحفريات في أماكن مختلفة من العالم على وجود طبقة من الرماد تدل على قيام حرائق أدت إلى القضاء على بعض الغابات والحيوانات مثل أشجار الصنوبر والبتولا واختفاء أنواع من دببة الكهوف وغيرها من الحيوانات الأخرى ، ومهما كان حجم التأثير المتواصل لم يصل إلى درجة إحداث شرخ بيئي يؤثر على نظام الطبيعة العام ، بالرغم من كل هذه التجاوزات والتخريبات كان لطاقة التجديد الطبيعية قدرة التجاوز وترميم الذات بدون أثار مدمرة أو مؤذية لمجال النشوء الحي .
فالأعداد القليلة من البشر في العصر الحجري وأساليب تفاعلها البسيطة مع الطبيعة لم تترافق مع تغيرات بيئية عميقة بل كان التعايش هادئاً ومنسجماً مع البيئة الطبيعية المتماسكة والمترابطة بأحكام ، وقد صقلت الخبرة النوع البشري وكيفته بشكل لا يتوافق مع حاجاتها لأن الانعكاسات البيئية الناتجة عن العقل البشري لم تصل إلى درجة التأثير المباشر عليه ضمن فترة قياسية تعادل حياته وحياة أجيال من بعده ، لقد كان التأثير المتبادل بعيد الأمد ، أدى إلى تدعيم قوى الاستهتار داخل النفس البشرية ، فعندما يترك المرء دون نقد أو صد أو جواب يؤدي إلى تنشيط غروره بذاته ليصل إلى درجة الاستهتار بكل ما يحيط به من وسط حي ، فالأعمال وأساليب التصرف البشرية في بداية عهدها لم تلاقي أصداء تضايق وجودها أو تهدده ، لذلك امتلك الإنسان طاقة تهديم هائلة دون أن تكون فعالة جعلته على مر العصور خارج التقيد بالنظام البيئي وعززت في داخله طاقة الفوضى واللامبالاة .
ومع التحسين المستمر لأدوات العمل ونشوء الزراعة واختيار مناطق استقرار موفورة الخيرات ، غالباً ما تكون قرب الأنهار والينابيع أو جوار الغابات أو في السهوب الواسعة الخصبة ومع تكون عوامل بيئية قد تكون مرعبة وأحياناً كارثية مثل الفيضانات والثلوج الغزيرة والرياح العاتية والبرد والبرق ، كثيراً ما حولت الإنسان إلى إلعوبة بيد القوى الهوجاء ، جعلته كائناً هزيلاً خائفاً من نظام الطبيعة وقواعدها الشرسة أوصلته في بعض الأحيان إلى درجة الاستسلام ، غير أن المعادلة العدائية لم تكن واضحة المعالم والدلالات ولم تفعل سوى إيقاظ شعور الخوف والوجل في داخله وإدراكه لمخاطر الانهزام .
وكانت حافزاً من حوافز الحياة تدفعه لتغيير سلوكه وأسلوبه العام وزيادة طاقة الحماية في حياته ، وضمن السياق العام للتاريخ البشري تناقص الخطر الناتج عن الطبيعة أمام الأخطار الناتجة عن البشر أنفسهم ، فالتطور البشري لم يسر نحو التعايش والتعاون والتفاهم بل شق لنفسه مسيراً مرعباً من الانقسامات الاجتماعية وتفاوت القدرات والالتزامات ونشوء الحروب والخلافات وعلاقات مبنية على الخضوع والسيادة والقهر أفرغت الوجود ابشري من مضمونه الإنساني وقامت على أساس الاستغلال البشع والقمع والشراهة في جمع الثروة ، فقد تغيرت بنية المخاطر والعوائق أمام البشر وظهرت عوائق جديدة داخل الكيان البشري ومن خلاله عمقت أساليب المواجهة والانهزام وعززت طاقات من الكراهية والحقد في النفس الإنسانية وتطور العقل البشري في وسط مؤسّس على الخلاف والنزاعات والحروب فانهارت طاقة الإبداع العقلي والعملي وضعفت بنية الوجود البشري لأن العمل اتخذ صفة التبعية الملزمة بقوة الضغط البشري المرعب أدخلت نظام التباعد والحذر وخلفت وراءها حطاماً من البشر حطام ناجم عن الاستغلال والاستعلاء وضروب شتى من التباين والحذف المنظم لطاقات بشرية هائلة وحرفت نظام العمل الحر إلى نظام العمل بالإكراه جعل الحياة الإنسانية تشق طريقها في وسط بالغ الصعوبة منهك وغير فعال فمن يعيش في وضع مريح وسائد أهمل الإبداع والعمل وانتقل بكليته نحو البزخ والترف فدخل دائرة الخمول وعطل طاقات الخلق في ذاته فانهار الوجود وتغيرت بنيته الاجتماعية بشكل لا يتوافق مع القدرات الحيوية الكامنة في أعماق النفس البشرية وضاعت طاقة الحرية في اتخاذ التدابير المضمونة لتعزيز القوة الإنسانية وتفعيل طاقاتها وتنشيط أعمالها مما يوسع إطارها في المحيط الحيوي وينبها المسير المؤلم والانهيار الطويل ضمن مسير يتوسع نحو الصعوبة في تجاوز أخطاءها وردم مخلفاتها من عصور مبنية على الفوقية والتبعية وضعف الوعي والطاقة الإنتاجية .
فالتزايد المطّرد لنسبة العطالة والترفع عن العمل رفع نسبة التأمّل الذهني والدخول في عالم البحث والعيش في إطار الأساطير والتشكيلات العقلية عن غاية العالم وبدايته وتفاعل كائناته وتوسيع مفاهيم البطولة وعلم الطبيعة والفلك والرياضيات والعلوم الزراعية والكيمياء ( السيماء ) والجغرافيا وغيرها من فنون التعبئة العقلية لتشكيل أنظمة مختلفة من علم الفلسفة ، فتزايدت المعرفة في الغيبيات والتنجيم والشعوذة وكل ما يدخل في نظام الملهاة الإنسانية . وظهور تشكيلات معرفية عن علاقة الإنسان بالكون والتخاطر الفكري والتجلي الفكري لخلق منظومة معرفية تواكب الصراع وتعزز التواجد الفوقي وكل ما يؤدي إلى تباين المعارف الإنسانية . فاختل الانسجام الحيوي مع الوجود الطبيعي وأخذ الوجود البشري يرتفع عن الدناءات الخلقية الموجودة في طبيعة المخلوقات غير البشرية فظهر نوع من التقسيم الحي الفاصل بين المرغوب والمرفوض وحاول الإنسان التسامي حتى عن ذاته ، بالبحث عن مجال أوسع يفصله عن الدناءات البشرية فظهر التقسيم لينفصل الإنسان عن وجوده البشري ليعيش الصفوة الذاتية والسير إلى أبعد ما يمكن للإتحاد بالقوى المحركة للكون والانتقال إلى وسائل حياتية وأساليب من الراحة غير متوفرة على الواقع الأرضي وهي السعادة الروحية وظهر تناقض معادي لوجود الإنسان بفصل العمل العضلي عن العمل الذهني فتعمم التناقض والفوضى وتزايد البؤس والدمار واختل التوازن الاجتماعي وتعمقت الأساليب المعادية لوجود الإنسان ، وأصبحت القيمة الإنسانية متماثلة مع أي قيمة مادية أخرى فرضت أساليب متنوعة للتضحية بالبشر من أجل إحراز بعض المكاسب المادية والمحافظة على حالة الترف في أرقى مظاهرها النفسية ، وأصبحت وسائل الدمار وأساليبه ضمن المنظومة المعرفية للثقافة العقلية والإنسانية تطور ذاتها من خلال إرثها التاريخي .
وفي واقع الحياة العملية تطور العلم التطبيقي للحرف وتزايدت الدقة في صناعة الأدوات المعدنية المعدة للعمل فهيأت إمكانيات واسعة لقيام معابد ومعالم ضخمة ضمن مقاييس عالية الدقة ساعدت على نمو المدن وإنشاء الطرق والسدود وعمقت معالم بالغة التأثير في الحياة النفسية وعمقت بنية الحضارة المادية في تطوير مجمل البنية التحتية في الزراعة والري وصناعة اللوازم الشخصية وحاجات المساكن وساهمت في تطوير الطاقات الخّلاقة وتأمين الضرورات الملحة لإتمام التطور .
2- دور الماء في نظام الحياة الإنسانية :
البيئة مكان حاضن للحياة بكل ما فيها من تنوع وهي العلاقة المتكونة عن تفاعل عوامل كثيرة مشتركة تتبادل فيما بينها التأثير لتوفير الجو الملائم للحياة ، فالأرض والشمس والقمر والكواكب في تفاعل قادر على إعطاء الظرف الأنسب لتأمين الطرق المناسبة والجو المناسب لإقامة الحياة ، كذلك الأرض بما فيها من غلاف جوي وأشجار وبحار وأنهار ومحيطات وصحارى وسهوب ووديان إلى ما هنالك من إمكانيات تتفاعل لتأمين الوسط القادر على إحداث بنية حيّة متكاملة ومتفاعلة في وجودها ، والعلاقة بين الأحياء وتفاعلاتها تؤمن مجالها الحيوي لبقائها وتطورها وارتقاءها عبر الزمن ، فالوجود الطبيعي البيئي هو الوحدة الأساسية لوجود الإنسان والحيوان والنبات وكل ما يؤثر عليها وبتفاعل معهما ، فالوجود الحي بكل أصنافه وأشكاله قائم في الوسط البيئي والتنوع الحي قائم على التنوع البيئي ، وتدمير الأحياء وتقليصها قائم على التدمير البيئي وتقليص مكوناته الفعالة ، فالعلاقة بين الوجود و البيئة علاقة ترابطية محكمة الترابط نظراُ للتأثير المتبادل بين الحياة والجمود وبين الأحياء والأشياء والحياة والتطور ، فكل ما في الوجود محكوم عليه بعلاقة جوهرية هي الحفاظ على الحياة وتحولاتها مثل قانون انخفاض الطاقة وتحولاتها .
فالأهمية الأساسية للمكونات البنائية تنبع من فاعليتها وتأثيرها على الأحياء ، وبالرغم من كون الإنسان كائن حي واع لذاته ومحيطه الحيوي يعتبر مسؤولاً بشكل مباشر تجاه هذا المحيط الحيوي لإدراكه الواعي لأهميته ومعرفته لمجمل المؤثرات البيئية والطبيعية على الوجود الحي ، فقدرة الإنسان على التعليم وإنتاج العلوم والتدمير الواعي والمنظم للنظم الطبيعية القادرة على ترميم نفسها بدونه تجعله مسؤولاً وجدانياً وحقوقياً تجاهها وما جدوى دفاعنا عن حقوق الإنسان وتجاهل حقوق الطبيعة علينا ، ما دامت هذه الحقوق يمكن أن تذهب نتيجة عاصفة رملية في الصحراء ، أو من عاصفة مطرية هوجاء أو زلزال مدمر .
فالدور الحيوي الذي يلعبه الماء العذب في المحافظة على الحياة بتنوعها الغريب واللازم لمجمل العمليات الإنتاجية في الزراعة والصناعة والصناعات التحويلية وكافة الأنشطة الإنسانية وسلامة الحيوان والنبات .
فالماء والحياة عنصران مترابطان بفاعلية متلازمة من أجل الاستمرار ، فالماء يمكن أن يستمر خارج خارطة الحياة العضوية ، أما الحياة العضوية هي مرتبطة مصيرياً بوجود الماء ، فتلويث الماء العذب سينقلب إلى كارثة بيئية وحياتية يمكن أن تؤدي إلى عواقب وخيمة ومؤذية للحياة الإنسانية وغيرها ، فالنشاط الإنساني بكل أشكاله وأصنافه يحتاج إلى الماء لتأمين حاجاته المتزايدة ، فصناعة الحديد والفولاذ يدخل الماء
بصورة أساسية في إنتاجها ولا يمكن للصناعات النسيجية بما فيها الحرير الصناعي وخيوط البولستر أن تنتج بدون كميات كبيرة من الماء ، والأصباغ اللازمة لها يدخل الماء فيها كعنصر رئيسي ، أما المصانع المتطورة للكيماويات وإنتاج السيليلوز والورق والمحطات الحرارية وتوليد الكهرباء والصناعات الهندسية والبناء ومجمل الحاجات المؤدية إلى تأمين الراحة الإنسانية وسرعة تطورها تحتاج إلى أنهار هائلة من المياه ، فالطلب على الماء يزداد بصورة دائمة مع التقدم والتطور والنمو في الحياة الإنسانية ، فالمصانع بكل أصنافها تقام على ضفاف الأنهار والبحيرات أو مناطق غنية بالمياه الجوفية وفي أماكن يسهل جر المياه إليها وتتلخص من المياه الصناعية برميها في مجاري الأنهار والبحيرات والوديان ، وعلى مدار قرن وأكثر من الزمن والماء يزداد إشباعاً بالنفايات الصناعية المختلفة وتزداد الحاجة إلى الماء باطراد وبصورة أكبر وأكبر فاستمرار الصناعة قرناً أخر بنفس الوتيرة ونفس الإهمال لا بد أن يحدث تغيرات بيئية بشكل لا يمكن توقعه ولا يمكن تلافي نتائجه الوخيمة ، فالحياة تسير نحو إفساد ذاتها متذرعة بكل الأباطيل لإخفاء الجوهر الحقيقي لأطماعها الهمجية .
فالمياه النقية تتضاءل باستمرار والمشاريع الزراعية القائمة على التوسع لتلبية الحاجات الأساسية للتغذية السكانية المتزايدة تبحث عن مصادر مستمرة للمياه العذبة لإرواء المحاصيل القائمة على التوسع المطرد ، فعصرنا الراهن عصر الصواريخ الكونية والبحوث الفضائية والشركات المتعددة الجنسيات ، وعصر الحاسوب وبرامج الاتصالات الكونية ووسائل الإعلام الجبارة ، وفي المقابل تمارس نصف المناطق في العالم الزراعة البدائية الغير مجهزة بوسائل خدمة للعزق والري ، فالإستفادة من الأراضي الزراعية بالشكل الأمثل لم تزل متدنية إلى حد غريب ويستمر الجوع بالتزايد لدرجة يدق معها ناقوس الخطر مهدداً البشرية بكارثة إنسانية يمكن أن تغير البنية الأساسية للتوزيع السكاني على هذا الكوكب .
وفي البلدان المتطورة تقنياًُ وعلمياًُ لا يتم إنتاج المواد الغذائية بالشكل المناسب ، لأن الغاية ليس تأمين الحاجات الغذائية للسكان وإنما تأمين الحاجات الغذائية المعدة للتجارة وتحقيق الأرباح .
فالمردودية العالية للزراعة هي مسؤولية إنسانية وإجمالية فالواقع الغذائي العالمي شديد الارتباط والتداخل لدرجة يصعب فيها الفصل بين التأثيرات الضارة والناتجة عن سوء التغذية في العالم أجمع ، فإذا عم الجوع والموت إحدى القارات أو مناطق متباينة في العالم فهل العالم قادر على الاستغناء عنها ، فالأرض وحدة متكاملة بكل مكوناتها الأساسية وهي منسجمة مع ما تحتويه من عناصر أساسية للحياة وإن النقص المتزايد في المواد الغذائية في العالم أجمع ، ناتج عن الاستخدام الجائر للموارد الطبيعية وسوء الإدارة في الموارد الاقتصادية والاجتماعية ،فالوسائل الفعال لتحقيق الزيادة في المحاصيل الزراعية والحيوانية وتأمين الكفاية الذاتية للاستهلاك البشري بما يتوافق مع النمو السكاني يقتضي العمل المسؤول وإشراك جميع الفعاليات الاقتصادية والسياسية في العالم وتحميلها المسؤولية عن المصير المؤلم في تردي الحاصلات الزراعية ، لأن جميع العاملين في حقل الزراعة جادون وراغبون في تحقيق إنتاج زراعي متوازن يرفع مستوى معيشتهم باطراد .
فالتلاعب الدائم في تسويق المحاصيل الزراعية وإحباط الجهد المبذول للعاملين في حقل الزراعة ، يخلق لديهم إحباط متواصل وعدم القدرة على الاجتهاد في حقل الزراعة .
وإن التوسع المتواصل في الزراعة المروية والالتزام بقواعد الأمن المائي واتباع وسائل كفيلة بخفض نسبة الملوحة في التربة وترشيد التوزيع والاستهلاك الزراعي يجنب البشرية الأخطار الناتجة عن الجوع ، فالزراعة يجب أن تقوم على التعاون الدولي والمراقبة الجادة لمجمل الأعمال القائمة في حقل الزراعة وتفعيل الإرشاد الزراعي وإشراكه في الإنتاج الزراعي لتأمين التلاحم والتفاعل بين الأبحاث الزراعية والأعمال الزراعية .
إن التكيف المتواصل للأعمال الزراعية والزيادة المتواصلة في المحاصيل يتطلب استهلاك كميات زائدة من المياه العذبة وزيادة الإنفاق على السدود والاستفادة من كل قطرة ماء ، وخلق توازن بين استهلاك الماء في المدن والصناعة وبين استهلاك الماء في الزراعة وترشيد استهلاك الماء للاستفادة منه في سنوات القحط ، فالنقص المتزايد في الينابيع والجداول التي كانت ترفد الأنهار بكميات من المياه العذبة والرقراقة تعد مؤشراً خطيراً يدفع الوعي العالمي للعمل الحثيث من أجيل ترشيد وتقنين استهلاك الماء والاستفادة منها للأغراض الزراعية ومياه الشرب .
فالمياه تقل والصراع من أجل المياه يزداد بشكل ولا بد من إيجاد السبل الكفيلة بتقاسم المياه العذبة بشكل يؤمن الحياة للجميع ، وتفادي الأخطار والحروب الناتجة عن التقسيم الجائر للمياه ، فالحياة المعاصرة والصناعة والزراعة لا يمكن أن تستمر بدون الكهرباء والكهرباء عمودها الفقري هو الماء .
ولا بد من التوازن بين الموارد المائية المطروحة للاستهلاك وتوفير العوامل المناخية والجيولوجية والغطاء النباتي لتأمين الحدود الضرورية من المياه . فالتلازم الدقيق بين الغابات والثلوج والسدود والعناية بتركيب التربة والحد من انجرافها والحفاظ على الطيور والثعالب والفئران وتأمين المجال الحيوي لحياة الحيوان والنبات والحشرات وكافة الظواهر الطبيعية المرافقة والمترافقة بعلاقات تبادلية دقيقة تغذي الطبيعة وتعطيها القدرة على الاستمرار ، فالزحف السكاني الهائل يمكن أن يغير المعالم الطبيعية إلى الأبد ولا بد من ترشيد إقامة المساكن بشكل لا يؤثر على المجال الحيوي للطبيعة ويؤدي إلى اختناق النبات والحيوان .
3 – دور الغابات في انتظام الماء والحياة الإنسانية :
تتمتع الأشجار بدور مقاوم ومعاكس للجفاف وتمتلك خاصية تلطيف الأجواء بما تحتويه من خصائص فعالة لمعالجة الحالة الجوية ، فالأشعة الشمسية الحارقة والساقطة على الأرض يؤدي إلى تسخينها المستمر وتسخين الهواء المحيط بالقشرة الأرضية بشكل يدعو للنفور من الجو القانط ويمكن اللجوء إلى الأشجار لأنها تشكل مظلة واقية من أشعة الشمس وملطفة للتربة التي تظللها وتساعد في إمساكها وتخصيبها بشكل مستمر ، والثلوج المتساقطة على الأشجار وتحتها تمنعها من الجريان وتجبر التربة على امتصاصها بهدوء بشكل يساعد على توفير مخزون عالي من المياه الجوفية العذبة والإبقاء على أطول فترة ممكنة لتبلل التربة ، فهي تقوم على التوفيق بين حاجة النبات للماء وحاجة الإنسان للماء .
فالتبخر الناتج عن النتح يشبع الهواء بالرطوبة ويلطف الجو وإنعاش محتواه وصد الرياح وتجزئة قوتها إلى تيارات هوائية متناثرة فتحمي المزروعات من خطرها الدائم . والمناطق الجبلية المنحدرة لا يمكن الحفاظ عليها من الانجراف والتعرية بدون غطاء نباتي فعّال تقوم جذوره بتثبيت التربة وكأنها شبكة من الأسلاك معقدة الربط تمنع التربة من الحركة وتحافظ على الماء فيه بتنظيم عملية التبخر وترطيب طبقة الهواء المارة فوق المزروعات والبشر ، كما تعمل الغابات كحواجز لصد كل ما يجري إلى الأنهار من ملوثات عضوية وغير عضوية ، وتعمل على احتواء الطيور واحتضانها وتسهيل عملها في القضاء على الحشرات الضارة الشرهة لقضم مادة اليخضور الحي .
فإذا كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا كما تذكرنا الأديان فإن الغابات والمياه زينة الأرض وإن التفاعل بين زينة الإنسان وزينة الأرض يؤدي إلى انسجام الإنسان مع الوجود بكل الحرية والارتياح . ومن الحقائق الواجب ذكرها أن الوطن العربي يتألف القسم الأعظم منه من صحارى صخرية ورملية جرداء تلظيها أشعة الشمس وفي عصر الحضارات الأولى كانت سوريا تزود مصر وكثير من البلدان بحاجاتها من الأخشاب والزيت والنبيذ ، فالآرز اللبناني الرشيق الباسق المكلل بالأغصان المترامية الأطراف يمثل العزة الوطنية ورمز العلم اللبناني لقد كان يمثل قوة وجبروت الفينيقيين قي تجوالهم عبر البحار . كان الأسطول الفينيقي المكون من شجر الأرز يجوب سواحل البحر الأبيض المتوسط بكل ثقة وأمان كما ساعد الأرز اللبناني على بناء قصور الأباطرة .
فالتدمير المتعاقب للغابات أفقر محيط النشوء الحيوي الكثير من فعاليته الحيوية لتحقيق أنسب الظروف لحياة هذا الكوكب الزرق ، فالحاجة إلى الأخشاب يمكن تأمينها من الغابة والحاجة إلى الأرض الزراعية يمكن تأمينها من حرق الغابة . فالغابة هي الوسط القادر على تأمين حاجاتنا السريعة من التدفئة والسكن والزراعة وغيرها الكثير ، فالاستغلال الأولي للغابة لم يكن شديد أو مؤثر على قوتها الحيوية ، فالفأس الحديدية لا تحدث إلا جرح بسيط يمكن أن يلتئم بسرعة ، فالبدايات الأولى لم تكن قادرة على تشكيل ضغط يؤثر على الغطاء النباتي ويقضي على جزء منه بدون رجعة إنه يؤثر على الطبيعة ولكن بدون إزعاج أو تأثير يؤدي إلى تزايد الخطر .
ومع تزايد البشر واستخدامهم تقنيات متطورة امتلكوا إمكانيات التأثير المتعاظم على الطبيعة وغدا تأثيرهم على الغابات عظيماً وامتد تأثيرهم على كامل المجال الحيوي من ماء وهواء وتربة وأشجار واصبح تأثيرهم يحتل محيط النشوء الحي ويقلل من إمكانياته على الاستمرار الحي في وجوده .
فالاعتقاد السائد بأن الطبيعة تعوض ما تخسره باستمرار يدعو إلى السخرية والاستهتار لأن الوحشية في تقويض الحياة البيئية يجعل الحياة إلعوبة الدمار القادم ليس على بنيتها بالذات بل وحياة القائمين عليها ، فالتأثير المتواصل والغير متوافق مع طبيعتها الخاصة استمر طيلة وجود الإنسان وغدا أكثر فاعلية وتدمير في العصر الراهن ، فاستخراج الفحم أزداد أضعاف مضاعفة كذلك استهلاك الوقود البترولي والغاز بما يجعل الغلاف الجوي معبأ بالسموم من الزرنيخ والإنتموان والزنك والرصاص كما يؤدي إلى استهلاك منتجات الأخشاب بشكل عالي وخطير في أماكن الكثافة السكانية في المدن الكبرى ، كما إن إحاطة الجو بالغازات الناتجة عن الاحتراق يضعف كثيراً وصول الأشعة فوق البنفسجية وزيادة الحرارة المحتبسة في جو الأرض بما يهدد بحدوث تغيرات مفاجئة على الطقس يمكن أن تؤدي إلى أعتى العواصف واشدها عنفاً وتدمير لكل ما هو قائم وحي وتكثر الأوبئة والأمراض ويتفاعل الوجود القائم على التلوث بشكل يهدد جميع الفعاليات الحية على وجه الأرض . حتى كمية المياه العذبة الذاهبة إلى البحار والمحيطات يصيب قسم منها الخلل من خلال تغيير نوعيتها بسبب الاستخدام والنواتج الملقاة بها بعد استعمالها وإعادتها إلى الأنهار والبحار من جديد ، فكل شيء ضروري في محيط النشوء الحي يمكن أن يصيبه الخلل ، فالعوادم الناتجة عن الطائرات والسفن والسيارات والقطارات والمصانع هي سيل جارف تقذف في الهواء بشكل مستمر ، فالمشكلة تزداد اتساعاً ولا بد من تعاون وثيق لحماية الحياة من مخلفات حياة التمدن والتطور والحضارة .
فالإهمال المتكرر لأصحاب المصانع والمعامل من تنقية المياه الصناعية يزيد الأخطار الواقعية للمياه الجارية في الأنهار وقد يسبب الوفيات لكثير من الناس وخاصة الأطفال لضعف إدراكهم المحتوى الفعلي للمياه الجارية والملوثة ، فحاجتهم إلى اللعب بالماء تقودهم إلى الكارثة .
إن الغابة هي ملاذ هادئ ومحبب لدى عامة الناس ، فالتنزه في أحضانها يجلب السرور ويجلي السريرة من مشاكل وأعباء العمل ونادراً ما نجد روضة خضراء للاستجمام لم تطأها أقدام الإنسان .
وعلينا أن ندرك بما لا يقبل الشك بأن الأشجار العملاقة مهما بلغ عمقها واتساعها وهذه الأنهار الواسعة والسماء العميقة في بعدها الهائل يمكن أن تهلك وتتلوث إذا لم يدرك الوجود البشري أهمية المحافظة عليها من خطر التلوث العظيم .
فالتلوث يساعد على إيقاظ القوى المعادية للعالمين الحيواني والنباتي ويؤدي إلى هلاكهما السريع وعلى البشرية مهام في غاية الأهمية أولها تغذية المعرفة الدائمة للأهمية البالغة الدقة لحماية الغابات والمياه والأسماك وكل ما يتعلق بالحفاظ على المجال الحيوي للأرض . فالطبيعة لا يمكن أن تصمد لوحدها أمام هذا الضغط الهائل من الحضارة الحديثة بآلاتها الجبارة واستهلاكها الهائل لكل مصادر الطاقة ولابد من قيام تعاون وثيق يعبر عن قواعد وأساليب التعاون مع الطبيعة وتوجيه كامل التكنولوجيا البشرية وجميع الموارد للعمل لمصلحة الطرفين الإنسان والطبيعة .
إن العالم يجب أن يتذكر نصيحة أنشتاين : " نحن نطير ونسرع ونتأخر دوماً في بلوغ هدف ما ولا بأس علينا من التوقف أحياناً والجلوس والتطلع حوالينا بانتباه وتأمل " .
فالانعدام المتواصل للمسافات بين البشر وسرعة تقاربهم عبر شبكات وقنوات متعددة ابتداء من الطيران السريع وصولاً إلى الانترنت يمكن أن يساعد على التفاعل والتفاهم حول مواقف أساسية تخص واقعهم المشترك وبحث أنجع السبل الهادفة للتغلب على مشكلات التلوث و الحد من الانهيار المؤلم لواقع الطبية القائم .
فالعمالة الكونية المبرمجة على مستوى البشرية حول كيفية زراعة الأراضي الجرداء والحقول وتحويلها إلى بساتين غناء لكل أصناف الأشجار يجعل من المجال الحيوي الأرضي أساساً قوياً للاستمرار مع هذا الكوكب في مناخ يتصف بالمثابرة والتواصل بعيداً عن العواقب المدمرة .
فالمعرفة المتزايدة عن قوانين الطبيعة وتطبيقها في كافة مجالات الصناعة والزراعة ومجمل الأنشطة الإنسانية تساعد في الحفاظ على أمن وسلامة البيئة والحياة الإنسانية ، إننا أمام حاجة ملحة لوضع خرائط لغابات المستقبل ، ويجب علينا أن يكون الهدف الأساسي إحصاء الغابات وفرز المناطق الصالحة لزراعة الغابات وتوزيع طرق خدمة الغابات وتحديد مواقع مصانع الأخشاب وكل ما يتعلق بالحاجات الغابية .
إنها مهمة حيوية تتطلب إجراء دراسات دقيقة ووضع معادلات تحدد التوازن الدقيق بين المعطيات الحرارية والمائية والتركيب المكانيكي والبكتيري للتربة مع إمكانية توفر النتروجين والفوسفور وغيرها من العناصر الحيوية لقيام الغابات وتوفير المتطلبات الاقتصادية وكافة موارد الزراعة من بذور ومشاتل وماكينات وقوى عاملة وحساب النفقات القصوى والتكاليف ، ويمكن إشراك الحواسيب الالكترونية العملاقة في صياغة مستقبل الثروة الغابية وتصنيف الغابات وفق مدلولاتها الطبيعية ، وعلى سبيل المثال يمكن غرس غابة من شأنها أن تعطي مردودية غذائية كغابة النخيل وفي حالة أخرى يمكن غرس غابة لأغراض علاجية وجمالية توفر البهجة والانشراح ويمكن الوصول إلى غرس غابات قادرة على الحياة في ظروف صعبة من الحرارة والرطوبة ، فالترشيد السليم لتصميم وإنشاء وزراعة الغابات وفق أساس رياضية مبرمجة من الحاسوب يؤدي إلى رفع مستوى مردود غابات المستقبل ، وقيامها بوظائف ومهام حيوية وزيادة الثروة المائية من المياه العذبة . فالغابة المنهجية يمكن أن تقوم على الجمع بين أصناف معينة من الأشجار تحقق زيادة في الثروة الخشبية وأخرى تحقق زيادة في الثروة الغذائية ، وتواصل الغابات مهامها الطبيعية على اكمل وجه في إعطاء الحياة الإنسانية طاقة مبدعة وخلاقة وتحصينها من نوازع الجشع وإهمال محيط النشوء الحي .



المرجع المعتمد :
إيغور أدابا شيف : الإنسان والبيئة – دار مير للطباعة والنشر .

ليست هناك تعليقات: